فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (104- 107):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}
خطاب لأهل مكة يقول: إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم، فبدأ أولاً بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيهاً لآرائهم، وأثبت ثانياً من الذي يعبده وهو الله الذي يتوفاكم. وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي. دلالة على البدء وهو الخلق، وعلى الإعادة، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم، وكثيراً ما صرح في القرآن بهذه الأطوار الثلاثة، وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت وإرهاب النفوس به، وصيرورتهم إلى الله بعده، فهو الجدير بأنْ يخاف ويتقي ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها. وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه يعبد الله، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له، المفرد له بالعبادة، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة، وطابق الباطن الظاهر. قال الزمخشري: يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب فيّ من العقل، وبما أوحي إليّ في كتابه. وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه، أأثبت أم أتركه وأوافقكم، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال، ولا تشكوا في أمري، واقطعوا عني أطماعكم، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ماتعبدون} وأمرت أن أكون أصله: بأن أكون، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة، مع أنّ وأنّ يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله: أمرتك الخير {فاصدع بما تؤمر} انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله: أمرتك الخير، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعاً لا قياساً وهي: اختار، واستغفر، وأمر، وسمى، ولبى، ودعا بمعنى سمى، وزوّج، وصدّق، خلافاً لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني، حيث يعني الحرف ووموضع الحذف نحو: بريت القلم بالسكين، فيجيز السكين بالنصب. وجواب إن كنتم في شك قوله: فلا أعبد، والتقدير: فأنا لا أعبد، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جواباً انجزم، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ. وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله.
ومن عاد فينتقم الله منه أي: فهو ينتقم الله منه. وتضمن قوله: فلا أعبد، معنى فأنا مخالفكم. وأن أقم يحتمل أنْ تكون معمولة لقوله: وأمرت، مراعى فيها المعنى. لأن معنى قوله أنْ أكون كن من المؤمنين، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر. وقد أجاز ذلك النحويون، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو.
ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي: وأوحي إليّ أن أقم، فاحتمل أن تكون مصدرية، واحتمل أن تكون حرف تفسير، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى، ليزول قلق العطف لوجود الكاف، إذ لو كان وأنّ أقم عطفاً على أن أكون، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى. والوجه هنا المنحى، والمقصد أي: استقم للدين ولا تحد عنه، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين. وحنيفاً: حال من الضمير في أقم، أو من المفعول. وأجاز الزمخشري أن تكون حالاً من الدين، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف نهي، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أقم، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية، وكونها حرف تفسير. وإذا كان دعاء الأصنام منهياً عنه فأحرى أن ينهي عن عبادتها، فإن فعلت كنى بالفعل عن الدعاء إيجازاً أي: فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك. وجواب الشرط فإنك وخبرها، وتوسطت إذاً بين اسم إنّ والخبر، ورتبتها بعد الخبر، لكنْ روعي في ذلك الفاصلة. قال الحوفي: الفاء جواب الشرط، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير، المعنى لا يجيء على معنى الجواب انتهى. وقال الزمخشري: إذا جواب الشرط، وجواب لجواب مقدر كان سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان، وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، {إنّ الشرك لظلم عظيم} انتهى. وكلامه في إذا يحتاج إلى تأمل، وقد تقدم لنا الكلام فيها مشبعاً في سورة البقرة. ولما وقع النهي عن دعاء الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع، ذكر أن الحول والقوة والنفع والضر ليس ذلك إلا لله، وأنه تعالى هو المنفرد بذلك، وأتى في الضر بلفظ المس، وفي الخير بلفظ الإرادة، وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية، لأنّ مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر، وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع، ولفظة المس أوجز من لفظ الإرادة وأنص على الإصابة وأنسب لقوله: فلا كاشف له إلا هو، ولفظ الإرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير، وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة. وجاء جواب: وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب، وجاء جواب: وإن يردك بنفي عام، لأنّ ما أراده لا يرده رادّ لا هو ولا غيره، لأن إرادته قديمة لا تتغير، فلذلك لم يجيء التركيب فلا رادّ له إلا هو. والمس من حيث هو فعل صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة، فإنها صفة ذات، وجاء فلا رادّ لفضله سمى الخير فضلاً إشعاراً بأنّ الخيور من الله تعالى، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل.
ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال: يصيب به من يشاء من عباده، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما: الغفور الذي يستر ويصفح عن الذنوب، والرحيم الذي رحمته سبقت غضبه. ولما تقدم قوله: ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فأخر الضر، ناسب أن تكون البداءة بجملة الشرط المتعلقة بالضر. وأيضاً فإنه لما كان الكفار يتوقع منهم الضر للمؤمنين والنفع لا يرجى منهم، كان تقديم جملة الضر آكد في الإخبار فبدئ بها. وقال الزمخشري: (فإن قلت): لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ (قلت): كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة، والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لا رادّ لما يريد منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأنّ ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الإنجاز، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله: يصيب به من يشاء من عباده، والمراد بالمشيئة المصلحة.

.تفسير الآيات (108- 109):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}
الحق: القرآن، أو الرسول، أو دين الإسلام، ثلاثة أقوال والمعنى: فإنما ثواب هدايته حاصل له، ووبال ضلاله عليه، والهداية والضلال واقعان بإرادة الله تعالى من العبد، هذا مذهب أهل السنة. وأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع ذلك، وأنَّ من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في ذلك. وقال القاضي: إنه تعالى بيّن أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل، فلا يجب عليّ من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم، وفي تخليصكم من العذاب الأليم، أزيد مما فعلت. وقال الزمخشري: لم يبق لكم عذر ولا على الله تعالى حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه. واللام وعلى على معنى النفع والضر، وكل إليهم الأمر بعد إزاحة العلل وإبانة الحق. وفيه حث على إتيان الهدى واطراح الضلال مع ذلك، وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير انتهى. وكلامه تذييل كلام القاضي، وهو جار على مذهب المعتزلة. وأمره تعالى نبيه باتباع ما يوحى إليه أمر بالديمومة وبالصبر على ما ينالك في الله من أذى الكفار وإعراضهم، وغيا الأمر بالصبر بقوله: حتى يحكم الله وهو وعد منه تعالى بإعلاء كلمته ونصره على أعدائه كما وقع. وذهب ابن عباس وجماعة إلى أنّ قوله: وما أنا عليكم بوكيل واصبر، منسوخ بآية السيف. وذهب جماعة إلى أنه محكم، وحملوا وما أنا عليكم بوكيل على أنه ليس بحفيظ على أعمالهم ليجازيهم عليها، بل ذلك لله. وقوله: واصبر على، الصبر على طاعة الله وحمل أثقال النبوة وأداء الرسالة، وعلى هذا لا تعارض بين هاتين الآيتين وبين آية السيف، وإلى هذا مال المحققون. وروي أنه لما نزلت: واصبر، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال: «إنكم ستجدون بعدي اثرة فاصبروا حتى تلقوني» قال الزمخشري: يعني أنّي أمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامني الكفرة، فصبرت واصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة. قال أنس: فلم نصبر، ثم ذكر حكاية جرت بين أبي قتادة ومعاوية رضي الله عنهما يوقف عليها من كتابه.

.سورة هود:

.تفسير الآيات (1- 4):

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}
قال ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وجابر بن زيد: هذه السورة مكية كلها، وعن ابن عباس: مكية كلها إلا قوله: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} الآية. وقال مقاتل: مكية إلا قوله: فلعلك تارك الآية. وقوله: {أولئك يؤمنون به} نزلت في ابن سلام وأصحابه. وقوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات} نزلت في نبهان التمار.
وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله: الم ذلك الكتاب، وأحكمت صفة له. ومعنى الإحكام: نظمه نظماً رضياً لا نقص فيه ولا خلل، كالبناء المحكم. وهو الموثق في الترصيف، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً، فالمعنى: جعلت حكيمة كقولك: تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله: {الكتاب الحكيم} وقيل: من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها، فالمعنى: منعت من النساء كما قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ** إني أخاف عليكم أن أغضبا

وعن قتادة: أحكمت من الباطل. قال ابن قتيبة: أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره عل محمد صلى الله عليه وسلم فثم على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل. إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب أجمعه محكم مفصل، والإحكام الذي هو ضد النسخ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب. وعن بعضهم: أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى، ولكن لا يقتضيه اللفظ. وقيل: فصلت معناه فسرت، وقال الزمخشري: ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بيّن ولخص. وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري، وزيد بن علي، وابن كثير في رواية: ثم فصلت بفتحتين، خفيفة على لزوم الفعل للآيات. قال صاحب اللوامح: يعني انفصلت وصدرت. وقال ابن عطية: فصلت بين المحق والمبطل من الناس، أو نزلت إلى الناس كما تقول: فصل فلان بسفره.
قال الزمخشري: وقرئ أحكمت آياته ثم فصلت أي: أحكمتها أنا، ثم فصلتها. (فإن قلت): ما معنى؟ ثم (قلت): ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل انتهى. يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة.
ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبراً بعد خبر. قال الزمخشري: أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي: من عنده إحكامها وتفصيلها. وفيه طباق حسن، لأنّ المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي: بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى. ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معاً من حيث صناعة الإعراب، بل يريد أن ذلك من باب الاعمال، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى. وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر، لأنه لا يحتاج إلى إضمار. وقيل: التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا، فيكون مفعولاً من أجله، ووصلت أنْ بالنهي. وقيل: أنْ نصبت لا تعبدوا، فالفعل خبر منفي. وقيل: أنْ هي المخففة من الثقيلة، وجملة النهي في موضع الخبر، وفي هذه الأقوال العامل فصلت. وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها، أو التقدير: من النظر أنْ لا تعبدوا إلا الله، أو في الكتاب ألا تعبدوا، أو هي أنْ لا تعبدوا، أو ضمن أنْ لا تعبدوا، أو تفصله أنْ لا تعبدوا، فهو بمعزل عن علم الإعراب. والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي: إني لكم نذير من جهته وبشير، فيكون في موضع الصفة، فتعلق بمحذوف أي: كائن من جهته. أو تعلق بنذير أي: أنذركم من عذابه إنْ كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. وقيل: يعود على الكتابة أي: نذير لكم من مخالفته، وبشير منه لمن آمن وعمل به. وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم. وأنْ استغفروا معطوف على أنْ لا تعبدوا، نهي أو نفي أي: لا يعبد إلا الله. وأمر بالاستغفار من الذنوب، ثم بالتوبة، وهما معنيان متباينان، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والمعنى: أنه لا يبقى لها تبعة. والتوبة الانسلاخ من المعاصي، والندم على ما سلف منها، والعزم على عدم العود إليها. ومن قال: الاستغفار توبة، جعل قوله: ثم توبوا، بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. قال ابن عطية: وثم مرتبة، لأن الكافر أول ما ينيب، فإنه في طلب مغفرة ربه، فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى ثمّ في قوله: ثم توبوا إليه؟ (قلت): معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقرأ الحسن، وابن هرمز، وزيد بن علي، وابن محيصن: يمتعكم بالتخفيف من أمتع، وانتصب متاعاً على أنه مصدر جاز على غير الفعل، أو على أنه مفعول به. لأنك تقول: متعت زيداً ثوباً، والمتاع الحسن الرضا بالميسور والصبر على المقدور، أو حسن العمل وقطع الأمل، أو النعمة الكافية مع الصحة والعافية، أو الحلال الذي لا طلب فيه ولا تعب، أو لزوم القناعة وتوفيق الطاعة أقوال.
وقال الزمخشري: يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، وعيشة واسعة، ونعمة متتابعة. قال ابن عطية: وقيل هو فوائد الدنيا وزينتها، وهذا ضعيف. لأنّ الكفار يشاركون في ذلك أعظم مشاركة، وربما زادوا على المسلمين في ذلك. قال: ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل، وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفروضاته، والسرور بمواعيده، والكافر ليس في شيء من هذا، والأجل المسمى هو أجل الموت قاله: ابن عباس والحسن. وقال ابن جبير: يوم القيامة، والضمير في فضله يحتمل أن يعود على الله تعالى أي: يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير، وزيادة ما تفضل به تعالى وزاده. ويحتمل أن يعود على كل أي: جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيء، كما قال: {نوف إليهم أعمالهم} أي جزاءها. والدرجات تتفاضل في الجنة بتفاضل الطاعات، وتقدم أمران بينهما تراخ، ورتب عليهما جوابان بينهما تراخ، ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا، كما قال: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} الآية وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة، وناسب كل جواب لما وقع جواباً له، لأنّ الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله، فناسب أن يرتب عليه حال الدنيا. والتوبة هي المنجية من النار، والتي تدخل الجنة، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة. والظاهر أنّ تولوا مضارع حذف منه التاء أي: وإنْ تتولوا. وقيل: هو ماض للغائبين، والتقدير قيل لهم: إني أخاف عليكم. وقرأ اليماني، وعيسى بن عمر: وإن تولوا بضم التاء واللام، وفتح الواو، مضارع وليّ، والأولى مضارع أولى. وفي كتاب اللوامح اليماني وعيسى البصرة: وإن تولوا بثلاث ضمات مرتباً للمفعول به، وهو ضد التبري. وقرأ الأعرج: تولوا بضم التاء واللام. وسكون الواو، مضارع أولى، ووصف يوم بكبير وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال. وقيل: هو يوم بدر وغيره من الأيام التي رموا فيها بالخذلان والقتل والسبي والنهب وأبعد من ذهب إلى أنّ كبير صفة لعذاب، وخفض على الجوار. وباقي الآية تضمنت تهديداً عظيماً وصرحت بالبعث، وذكر أنّ قدرته عامة لجميع ما يشاء، ومن ذلك البعث، فهو لا يعجزه ما شاء من عذابهم.